العمل التطوعي وأثره في التنمية الشاملة
تسعى المجتمعات المتقدِّمةُ لإحداث تنميةٍ
شاملة تتضمَّنُ تلبيةَ الحاجات الأساسيةِ للمواطنين، وتوفيرَ فرص العملِ
للشباب، وخفضَ معدَّلات البَطالة، وتحقيق العدالة في توزيعِ الدَّخْل،
وتحسينَ مستوياتِ التَّعليمِ والصِّحَّةِ والرَّفاهية عمومًا لكافة
المواطنين، وتعميمَ قِيَمِ حبِّ المعرفةِ وإتقان العمل، وإشراكَ جميع
الفئات في تحقيقِ النَّهضةِ بالمجتمع.
ويُعَدُّ الإنسانُ هو الثَّروةَ
الاقتصاديةَ والاجتماعية الأُولى لأيِّ مجتمعٍ من المجتمعات، وأساسَ
تقدُّمِه، وبقدرِ نُضجِه ووعيِه وإلمامِه بحقوقه وواجباتِه، واستعدادِه
للمشاركةِ وتحمُّلِ المسؤولية - بقدرِ ما تتحقَّقُ التَّنميةُ في هذا
المجتمع.
ويمثِّلُ العملُ الخيريُّ والتطوُّعيُّ
رافدًا أساسيًّا للتنميةِ الشاملةِ، يعكسُ مدى وعيِ المواطنِ لدورِه في
نهضة بلادِه ورفعتِها؛ لذا تحرصُ الدُّولُ المتقدِّمة على إدراج العملِ
التطوُّعيِّ كعلمٍ يدرَّسُ في المدارسِ والمعاهد والجامعات والدَّوراتِ
التَّدريبيةِ لمنظَّماتِ المجتمع المدنيِّ "الأهلي"، وطرح مفهومِه وأهدافِه
ومجالاتِه في العديد من الإصداراتِ، سواءٌ كانت كتبًا أو دورياتٍ.
تعريف العمل التطوعي:
التطوُّعُ - في أبسط تعريفاتِه -: هو بذلُ
الجهدِ الإنساني، بصورةٍ فردية أو جماعيَّةٍ، بما يعودُ بالنَّفعِ على
المجتمع دون تكليفٍ محدَّدٍ، ويقومُ - بصفةٍ أساسية - على الرَّغبةِ
الحرَّةِ، والدَّافع الذَّاتيِّ.
ولا يهدف المتطوع إلى تحقيق مقابل مادي أو
ربح خاص، بل اكتساب شعور الانتماء إلى المجتمع، وتحمُّل بعض المسؤوليَّاتِ
التي تُسهِمُ في تلبية احتياجات اجتماعيةٍ أو اقتصاديَّةٍ أو ثقافية
ملحِّةٍ، أو خدمةِ ومعالجة قضيَّةٍ من القضايا التي يُعاني منها المجتمعُ،
سواءٌ كانت من القضايا الكلِّيَّةِ؛ كدعمِ الحقوقِ، أو تأصيلِ الحريَّاتِ،
أو حفظِ الحاجات الأساسية للإنسان: (الدين، والنَّفْس، والعقل، والمال، والنَّسل)، أو كانت من القضايا الجزئية التي تصبُّ - ولا شكَّ - في التَّخفيف من معاناةِ أفراد المجتمع.
ويمكِنُ أنْ يؤدَّى العملُ الخيريُّ
التطوعي بشكلٍ فرديٍّ، لكنَّ الأغلبَ أن يؤدَّى في عصرِنا عن طريق كِياناتٍ
منظَّمة (غير حكوميَّة أو شبه حكومية)، تسمَّى جمعياتٍ خيريَّةً، أو
منظَّماتٍ مدنيَّةً غير ربحيَّةٍ، والتي تمثِّلُ في مجموعِها ما يُطلَقُ
عليه المجتمع المدني أو الأهلي، وقد شرعت لها قوانين وأنظمة تنظِّمُ عملَها
وعَلاقتَها بالدَّولةِ، وبالكِياناتِ الأخرى في المجتمع.
نظرة الإسلام للعمل التطوعي:
إنَّ العمل التطوعيَّ في مجتمعِنا يستمدُّ
جذورَه من تعاليمِ الإسلامِ الحنيف التي حضَّت على التوادِّ والتراحُمِ،
والتعاونِ والتَّكافل، والتناصرِ والتآزُرِ، والمناصرةِ والمروءَةِ، والبذل
والعطاءِ، والإنفاقِ والمسارعة إلى الخيراتِ، والتي أُجْمِلَت وفصِّلَت في
كثيرٍ من الآياتِ القرآنيةِ والأحاديث النبويَّة الشريفةِ، وقد اتَّخذ
التطوُّعُ والصَّدقةُ في الإسلامِ والدولةِ الإسلاميَّةِ صورةً مؤسَّسيةً
في شكل الأوقافِ التي يُنفَقُ رِيعُها على المساجدِ، والخلاوي،
والمستشفيات، والأسبلة، ودور العلم، وتجهيز الجيوشِ، وإغاثة المنكوبين
والمحتاجين.
العمل التطوعي في القرآن الكريم:
• قولُه - تعالى - : ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2].
• قولُه - تعالى -: ﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ﴾ [البقرة: 184].
• قوله - تعالى -: ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾ [البقرة: 177].
العمل التطوُّعي في السنة النبوية:
ورد في السنَّة النبوية المطهَّرةِ كثيرٌ من التَّرغيب في السعيِ لقضاء حوائج النَّاسِ، فمِن ذلك:
•
أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((المسلمُ أخو المسلمِ، لا
يظلِمُه، ولا يُسْلِمُه، ومن كان في حاجةِ أخيه كان اللهُ في حاجتِه، ومن
فرَّجَ عن مسلمٍ كربةً فرَّجَ اللهُ عنه كُربةً من كُرُبات يوم القيامةِ،
ومن ستَر مسلمًا ستره اللهُ يوم القيامة))؛ رواه البخاريُّ ومسلم.
•
أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن نفَّسَ عن مؤمنٍ كربةً
من كُرَبِ الدُّنيا نفَّسَ اللهُ عنه كربةً من كُرَبِ يوم القيامةِ، ومَن
يسَّرَ على مُعسِرٍ يسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلمًا
ستَره اللهُ في الدنيا والآخرة، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في
عونِ أخيه))؛ رواه مسلمٌ.
•
وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم -: ((كلُّ سُلامى من النَّاسِ عليه صدقةٌ، كل يومٍ تطلع فيه
الشَّمسُ: تعدِلُ بين اثنين صدقةٌ، وتُعين الرَّجلَ في دابَّتِه فتحملُه
عليها أو ترفعُ له عليها متاعَه صدقةٌ، والكلمةُ الطيبة صدقةٌ، وبكلِّ
خُطوة تمشيها إلى الصَّلاة صدقةٌ، وتُميط الأذى عن الطَّريق صدقةٌ))؛ رواه
البخاريُّ ومسلم.
• أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن كان له فضلُ ظَهرٍ، فليَعُدْ به على مَن لا ظهرَ له)).
•
أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((خير النَّاسُ أنفعُهم
للناس))؛ حسَّنَه الألبانيُّ - رحمه الله - في صحيح الجامع برقم: 3289)،
وهذا الحديثُ يُشيرُ إلى نفعِ الناس أجمعين، وليس نفع المسلمين فقط.
•
أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((تبسُّمُك في وجهِ أخيك
صدقةٌ))، وهذا إعلاءٌ من شأن التصدُّقِ المعنويِّ، الذي لا يقلُّ أهميةً في
الإسلام عن التصدُّق الماديِّ.
•
وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -
قال: ((سبعٌ يجري للعبدِ أجرُهن وهو في قبرِه بعد موته: مَن علَّمَ علمًا،
أو أجرى نهرًا، أو حفَر بئرًا، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث
مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفرُ له بعد موته))؛ "حسَّنه الألبانيُّ - رحمه
الله - في صحيح الجامع برقم: 3596".
والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرةٌ،
تؤكِّد قيمةَ التطوُّع والعملِ الخيريِّ، والمسارعة إلى الخيراتِ،
والمساهمةِ في نفع النَّاس والمجتمع.
دور العمل التطوعي في تنمية المجتمع:
أثبت الدكتور "أحمد السيد كردي" في بحثه بعنوان: "العمل الخيري ودوره في تنمية المجتمع"
أنَّ هناك علاقةً وثيقةً بين التنميةِ ومدى نجاحِها في المجتمع والعمل
التطوعي، حيث تشير الشواهدُ الواقعيةُ والتاريخية إلى أنَّ التنميةَ تنبُع
من الإنسانِ الذي يعتبرُ وسيلتَها الأساسيَّة، كما أنها تهدفُ في الوقت
ذاتِه إلى الارتقاءِ به في جميع الميادين الاقتصاديةِ والاجتماعية
والصِّحِّية والثقافية، ومِن المسلَّماتِ أنَّ التنميةَ تقومُ على الجهد
البشريِّ، وهو ما يستلزم - بالإضافةِ إلى الخطط الواضحة والمحددة - وجودَ
الإنسانِ الواعي القادرِ على المشاركة في عمليَّاتِ التَّنمية.
وتبرُزُ أهميةُ العمل التطوعي في تنمية المجتمعِ من خلال مِحْورينِ هامَّينِ:
1-
الاستفادة من الموارد البشرية: حيث يمثِّلُ العملُ التطوعيُّ دورًا
إيجابيًّا في إتاحة الفرصة لكافة أفراد المجتمع للمساهمة في عمليَّاتِ
البناء الاجتماعيِّ والاقتصادي اللازمة في كلِّ زمانٍ ومكان، ويساعد العملُ
التطوُّعيُّ على تنمية الإحساس بالمسؤوليَّةِ لدى المشاركين، ويُشعِرُهم
بقدرتِهم على العطاء وتقديمِ الخبرة والنَّصيحة في المجال الذي يتميَّزون
فيه.
2-
الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة: حيث يساهمُ العمل التطوُّعي في تخفيض
تكاليفِ الإنتاجِ، ويساعدُ على تحقيق زيادةِ الإنتاج، ومع تزايُدِ الطَّلبِ
على السِّلَعِ والخدمات من قِبَلِ أفرادِ المجتمع، وصعوبة الحصولِ عليها
في كثيرٍ من الأحيان، فإنَّه يُصبِحُ من الأهميَّةِ بمكانٍ الاعتمادُ على
جهودِ المتطوِّعينَ؛ لتوفيرِ جزءٍ من هذه الاحتياجاتِ.
والعمل الخيريُّ بوجهٍ عامٍّ يجمعُ
الطَّاقاتِ المُهدرةَ، ويسخِّرُها لخدمة البناءِ والتَّنميةِ الاقتصاديَّةِ
من خلال المؤسَّساتِ والمنظَّماتِ والهيئات الخيرية؛ لذا حرَصت الدُّوَلُ
المتقدِّمة على ترسيخ مفهوم العمل التطوُّعي، والحثِّ عليه بين جميع الفئات
والشَّرائحِ الاجتماعية المختلفةِ، وخلق المناخ الملائم لتشجيعِ كلِّ
الأفراد للعطاءِ والإبداعِ، وتخصيصِ إدارة عامَّةٍ متخصِّصةٍ لتحديد
المجالات التي يمكِنُ من خلالِها التطوُّعُ والإبداع، وخلق الحوافز المادية
والمعنوية؛ لرفع نسبة المتطوعين في شتَّى المجالات.
وبذلك يرتبط مفهومُ العمل الخيريِّ
والتطوُّعي بالتنمية الشاملة؛ من خلال مجموعِ الأعمال والبرامج التي تستهدف
الإنسانَ وترقَى به، ابتداءً من الفرد، ثم الأسرةِ، ثم تمتدُّ إلى
المجتمع؛ فصلاحُ الأسرةِ من صلاحِ الفردِ، وصلاح المجتمع من صلاح الأسرةِ.
وتظهر حقيقةُ العمل الخيري وخططه فيما
يمكِنُ أن تُحدِثَه من تأثيراتٍ وتغيرات في المجتمعِ باتجاه التنمية
الشاملةِ؛ فهو ليس جهودًا تُبذَلُ وحسْبُ لإنقاذ مصابٍ، أو علاجِ مريضٍ، أو
أموالاً تنفق لسدِّ رمَقِ محتاجٍ، بل إنَّ خطط العملِ الخيريِّ يجبُ أن
تكون في اتجاه التَّنميةِ، وفي اتجاه بِناءِ المجتمع فردًا وأسرةً، ومن هنا
يمكِنُ أن نضع الأعمالَ في سياقِها الصَّحيحِ المنتِجِ حينما نخطِّطُ
للبرامج الموجَّهة إلى كلِّ فئاتِ المجتمع، وعلى رأسها قطاعُ الشَّباب.